فصل: مطلب: المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل اللّه والإحسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: المقابلة بالمثل وفضل العفو والإنفاق في سبيل اللّه والإحسان:

ثم قال تعالى: {وَالْحُرُماتُ قِصاص} مساواة ومماثلة كما فسر بقوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ} بقتال أو غيره: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} قابلوه بالاعتداء سواسية على حد قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَة مِثْلُها} الآية: 40 من الشورى، ولهذا سماء اعتداء: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} فإن زدتم عليه فقد ظلمتم، وإن نقصتم فقد عفوتم وصفحتم، ولأن يخطئ الإنسان بالعفو أحسن من أن يخطئ في القصاص، لأنه إذا جاوز استيفاء حقه فقد ظلم كما أن الخطأ في التبرئة خير من الخطأ في الحكم لأنه مما يوجب التوفي منه والابتعاد عنه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها الناس من مجاوزة حقوقكم إلى ظلم الغير: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [194] الذين يراعون في أمورهم حدود اللّه وحقوق الناس، ولا يتعدون في الانتقام فهؤلاء يكونون في حراسة اللّه تعالى وهو يصلح شأنهم بالنصر والتمكين، وإنما جمع الحرمات لأن القتال قد يجتمع فيه حرمات ثلاث حرمة الشهر إذا كان من الأشهر الحرم وحرمة البلد إذا كان في مكة وحرمة المتقاتلين إذا كانوا محرمين، أي إذا قاتلوكم في إحدى هذه الحالات الثلاث، أو حال اجتماعها، فقاتلوهم أنتم أيضا، لأن مقاتلتكم قصاص لمقاتلتهم، ولا إثم عليكم في ذلك.
هذا، ولما أمر اللّه تعالى بالجهاد وكان أهم لوازمه المال أنزل اللّه جل شأنه: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي الجهاد والإنفاق صرف المال في وجوه البر، وأحسن أنواعه الجهاد ولاسيما عند الحاجة مثل ذلك الوقت، والذي يخصص المراد بهذا الإنفاق للجهاد مجيء هذه الآية بعد ذكره، على أنه مطلوب في الجهاد وغيره، ولكنه في الجهاد وزمن الحاجة أفضل وأكثر أجرا.
والمراد بقوله جل قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} التي هي التمسك بالأموال وترك الغزو في سبيل اللّه وعدم معاونة الغزاة بالمال لأنه يسبب تسلط العدو عليكم وإهلاككم.
روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا واحتسابا باللّه وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات.
وأخرج الترمذي والنسائي عن خزيم بن فانك قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل اللّه كتب له سبعمئة ضعف.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق وروى البخاري عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
قال نزلت في النفقة، أي لا تمسكوا عن الإنفاق خوف الفقر فتقولوا إن أنفقنا يذهب مالنا ونهلك، بل أنفقوا: {وَأَحْسِنُوا} في الإنفاق والجهاد وغيره ولا تسرفوا بالنفقة ولا تبخلوا فتقتروا فيها على أنفسكم ومن تلزمكم نفقته الأقرب فالأقرب، لأنه صلة ونفقة وصدقة، ثم الأبعد فالأبعد عن طيب نفس وانشراح صدر، وهذا هو معنى الإحسان بالنفقة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ويزيدهم من فضله ويثيبهم على إحسانهم.
روى سلمة عن أسلم بن عمران قال كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم وأكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس سبحان اللّه يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال أيها الناس إنكم تؤولون هذه الاية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لمّا أعزّ اللّه الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن اللّه قد أعزّ الإسلام وكثر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل اللّه على نبيه هذه الآية يردّ علينا ما قلنا، وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل اللّه حتى دفن بأرض الروم في أصل صور قسطنطينة، فهم يتبركون في قبره فيزورونه احتراما، ويستشفعون به إلى اللّه في حوائجهم ويستسقون به حتى الآن، رحمه اللّه رحمة واسعة.
قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} بأن تأتوا بجميع أركانها وشروطها وواجباتها وسننها ومندوباتها وتجتنبوا مكروهاتها وتبدءوها بالمال الحلال والنيّة الخالصة، وتختموها بالعزم على اجتناب ما نهى اللّه عنه وتكملوها: {لِلَّهِ} وحده لا لسمعة ولا لرياء ولا لتجارة محضة.
واعلم أن أركان الحج خمسة: الإحرام من المحل المعروف كرابغ والجحفة مثلا، والوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة جزءا من النهار وجزءا من ليلة النحر، والطواف بالبيت للزيارة، والسعي بين الصفا والمروة، وحلق الرأس أو تقصيره.
وأركان العمرة أربعة: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وبهذه يتم كل من الحج والعمرة إذا لم يعقكم عائق: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} ومنعتم من قبل عدو أو وحش أو حبس أو مرض أو عرضت لكم حاجة لا غنى لكم عنها تمنعكم من الحج أو من إكماله أو نفدت نفقتكم أو ضاعت ولم تجدوا من تستدينون منه فتحللتم من حجكم وعمرتكم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عليكم وهو شاة لأن أعلى الهدي بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة يذبحها في المحل الذي أحصر فيه، لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية فيها، ولما أخرج البخاري عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وحلق رأسه هناك.
وقال أبو حنيفة:
يبعث بالهدي إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك على وقت مخصوص، حتى إذا غلب ظنه على وصوله يحل في ذلك استدلالا بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الذي يجب أن يذبح فيه عادة.
وقال الشافعي وأحمد ومالك: يذبحه حيث أحصر مستدلين بما تقدم.
وهذا إرشاد من اللّه تعالى إلى عباده لتدارك ما قد يعتريهم من العوارض المتوقعة المخلة بالحج، ومنها ما جاء في قوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} وهذا بيان حكم الإخلال بنوع آخر غير الإحصار كجراح وبالأخرى كل ما يتوجع منه بدليل قوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} كصداع ودوخة أو قمل وغيره واحتاج إلى الحلق حال الإحرام فحلق رأسه: {فَفِدْيَة} عليه جزاء ذلك: {مِنْ صِيامٍ} أقله ثلاثة أيام: {أَوْ صَدَقَةٍ} أقلها إطعام عشرة مساكين كل واحد نصف صاع: {أَوْ نُسُكٍ} ذبيحة أقله شاة، وأو هنا للتخيير فيفعل أيها شاء وهو الفدية التي يريدها اللّه تعالى وكل هدي أو إطعام يلزم المحرم فهو لمساكين الحرم إلا هدي المحصر فلأهل المحل الذي أحصر فيه على أحد القولين المتقدمين، روى البخاري، ومسلم عن كعب بن عجرة قال:
أتى عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر لي والقمل يتناثر على وجهي، فقال أيؤذيك هوام رأسك؟ قال قلت نعم يا رسول اللّه، قال فاحلق وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، لا أدري بأي ذلك بدأ.
وفي رواية قال فيّ نزلت هذه الآية: {فَإِذا أَمِنْتُمْ} من خوفكم وبرئتم من مرضكم وزال مانعكم من الإحصار الذي عاقكم: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} انتفع بالتقرب إلى اللّه تعالى: {بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} أي قبل انتفاعه بتقربه بالحج في أشهره أو من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج مجددا.
وهذا حكم آخر لغير المحصور إذا أراد التمتع وهو الإحرام أولا بالعمرة، وبعد أن يكملها يتحلل ثم يحرم بالحج: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عليه أي شاة، ويسمى هذا الهدي هدي المتعة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} هديا يذبحه لضيق ذات يده: {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} عليه: {فِي الْحَجِّ} في وقته وأشهره بين إحرام العمرة وإحرام الحج، والأحب أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، وإن شاء فرقها، ولا يصح صوم يوم النحر ولا أيام التشريق: {وَسَبْعَةٍ} أيام عليه أيضا: {إِذا رَجَعْتُمْ} نفرتم وفرغتم من أعمال الحج.
ولما كان النفر أو الفراغ سببا للرجوع أطلق الرجوع عليها على طريق إطلاق المسبب وإرادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ، وله أن يصوما بعد الرجوع إلى أهله: {تِلْكَ} الثلاثة أيام والسبعة: {عَشَرَة كامِلَة} قائمة مقام الهدي الذي لزمكم ذبحه بسبب تحليلكم الإحرام بين العمرة والحج: {ذلِكَ} الحكم الذي بيّن خاصّ: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} لأن أهله وأهل مكة وما يشتمل عليها من المواقيت إذا تمتعوا أو قرنوا فلا هدي عليهم، لأنهم لا يجب عليهم الإحرام من الميقات كسائر أهل المدن الأخرى، لهذا فإن إقدامهم على التمتع لا يوجب خلال في حجهم، بل هذا على أهل الأرياف والبلاد الخارجة عن حدود الحرم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما يأمركم وينهاكم عنه في الحج وغيره: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} على من تهاون بحدوده وخالف أوامره، ومن علم أنه كذلك صده علمه عن كل ما نهى اللّه عنه، وقد جاء لفظ الجلالة مع اكتفاء الإشارة إليه بالضمير لتقدم ذكره، لإدخال الروعة على من تحدثه نفسه بالمخالفة، ولتربية المهابة في قلب غيره، ولإلهاب قلوب الطائعين للإخلاص بطاعته.
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُر مَعْلُومات} مبدؤها شوال وذو القعدة، ومنتهاها اليوم العاشر من ذي الحجة، وكماله الثالث عشر منه، وجمعت الأشهر، مع أن أقل الجمع ثلاث، وهنا شهران وبعض الثالث، لأن الشهر الذي أوله من أشهر الحج فآخره كذلك، لأن الحاج لا يرجع إلى أهله قبل نهايته غالبا لاشتغاله بالزيارة، أو لأن اسم الجمع يطلق على ما وراء الواحد، قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} الآية: 5 من سورة التحريم الآتية، وقال تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} الآية: 46 من سورة النمل. وفيهما ما يرشدك لمثله، على أن السفر سيكون بالطائرات المحدثة، وعليه قد يكون الحج والزيارة بأسبوع واحد، واللّه أعلم.
وجاء في الآية الأولى: {مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي الأهلة بلفظ عام، وهذه الآية بلفظ خاص، والخاص مقدم ومفسر له، وتفيد هذه الجملة أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر المذكورة، لأن الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح، فالخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها قائمة مقام الركعتين من الظهر حكما، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة قبل وقته أولى، ولأن الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقته، فلأن لا ينعقد قبل الوقت أولى، لأن البقاء أسهل من الابتداء، ولا يرد قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} هنا، لأن هذه الآية أخصّ منها، تدبر.
واعلم أن اللّه تعالى فرض الحج على هذه الأمة دون غيرها واختلف في زمن فرضه والصحيح أنه سنة ست من الهجرة كما ذكره الطحاوي في حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح.

.مطلب: في المحافظة على الأدب في الحج ولزوم التقوى فيه وجواز البيع والشراء في الموسم ودوام ذكر اللّه تعالى:

هذا، وما قاله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} بأن ألزم نفسه به بالنية والإحرام لزمه الحج، أما إذا فرض على نفسه الحج في غيرها بأن نوى أو أحرم فلا يلزمه، لأنه في غير وقته، ومن ألزم نفسه الحج فيها: {فَلا رَفَثَ} أي يجب عليه أن لا يرفث، وهو هنا كناية عن ذكر الجماع ودواعيه في محضر النساء: {وَلا فُسُوقَ} أي خروج عن طاعة اللّه فيدخل النهى في هذه الكلمة عن جميع المعاصي: {وَلا جِدالَ} مخاصمة مطلقة في قليل أو كثير بسبب وبلا سبب لإطلاق النهي عنها: {فِي الْحَجِّ} في زمنه كله ومكانه جميعه، لأن الذنوب تضاعف هناك، كما أن الحسنات تضاعف أيضا لما ورد أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل ألف صلاة.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
{وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ويثيبكم عليه وفي هذه الجملة حث الحاج على عمل الخير وتحذير شديد من فعل الشر، وفيها إرشاد إلى البر والوفاق والآداب الحسنة والأخلاق العالية، وإيماء بملاطفة الغير ولين الجانب، وإشارة إلى اجتناب جميع ما يعد شيئا، والإقدام على سائر ما يعد حسنا ورمز عن التباعد عن كل ما لا يرضي الله به، وفعل ما رغّب فيه، بدلالة قوله: {وَتَزَوَّدُوا} عباد اللّه من أعمال الخير والأفعال الصالحة ومن النفقة أيضا لإطعام المحتاجين والبائسين والتصدق على الفقراء والمساكين، واحذروا أن تقصروا في حمل النفقة لأنفسكم على الأقل بما يكفيكم لذهابكم وإيابكم لئلا تكونوا عالة على غيركم، لأن اللّه لم يكلّف غير المستطيع إلى زيارة حرمه، وكما يطلب التزود من الحاج في الزاد يطلب منه التزود في عمل الخير: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} عن كل محظور، ومنه التثقيل على الناس بالاستطعام وخير الزاد الموصل إلى العبادة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن حث جل شأنه على البر الشامل إثر تحذيره عن الشر العام أرشد عباده بأن يكون قصدهم بحجهم وعملهم ونفقتهم رضاه فقال: {وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ} [179] خصهم بالذكر لأنهم يعلمون حقائق الأمور، قال الأعشى في هذا المعنى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولا قيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال الآخر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ** ندمت على التفريط في زمن البذر

قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناح} حرج ولا إثم أيها الحاج: {أَنْ تَبْتَغُوا} بأن تتجروا فتبيعوا وتشتروا فتستفيدوا: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} رزقا وريحا في مواسم الحج، روى البخاري عن ابن عباس قال كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا أن يتجروا في المواسم كما كانوا قبلا فنزلت هذه الآية.
الحكم الشرعي:
تباح التجارة في موسم الحج إن لم تحدث نقصا في أعماله، والأولى تركها لغير المحتاج ليتجرّد للعبادة.
فيا أيها المؤمنون إذا أحرمتم ودخلتم مكة شرفها اللّه وطفتم طواف القدوم وخرجتم إلى عرفات يقول اللّه تعالى لكم: {فَإِذا أَفَضْتُمْ} دفعتم ونفرتم بعد إكمال وقوفكم: {مِنْ عَرَفاتٍ} بأن وجدتم فيها في جزء من نهارها وجزء من ليلة العيد، لأن أول الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة، وآخره طلوع الفجر من يوم النحر، ووقت الإفاضة من المزدلفة من بعد غروب شمس يوم عرفه إلى طلوع فجر يوم النحر، ويؤخر صلاد المغرب بسبب الازدحام وقت النفر ليجمعها مع صلاة العشاء بالمزدلفة، كما أنه يقدم عصر يوم عرفه فيصله مع ظهره بسبب الانشغال بالخطّ والترحال، ولا يجوز الجمع في غير هذين الوقتين في مذهب أبي حنيفة، إذ لم يثبت عنده في غيرهما، خلافا للإمام الشافعي إذ يجوز عنده لجمع تقديما وتأخيرا، مطلقا في السفر وفي الحضر لمرض أو لحاجة ماسة كالخوف والمطر، ولكل وجهة، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب بين مزدلفة وعرفات نزل قبال ثم توضّأ أي استنجى ولم يسبغ الوضوء، فقلت الصلاة يا رسول اللّه، فقال الصلاة أمامك، ثم ركب، فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلّى ولم يصل بينهما شيئا.
وجواب إذا الشرطية: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ} في المزدلفة وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمى عرفة إلى وادي محسر، والمأزمان والوادي ليسا من المشعر الحرام، وسميت مزدلفة لأن الناس ينزلونها زلف الليل أي أوائله، وتسمى جمعا لأنهم يجمعون فيها المغرب والعشاء، وهذه التسمية الأخيرة بعد الإسلام إذ لا صلاة قبله تجمع فيه.
والمأزمان هما المضيق بين جمع وعرفة، ويوجد مأزمان أيضا بين مكة ومنى، والمراد الأولان، وكل مضيق يطلق عليه مأزم.
والمراد بذكر اللّه تعالى دوام الدعاء بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
روى البخاري عن ابن عمرو بن ميمون قال: قال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع أي المزدلفة حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون أشرق بثير جبل بمكة تشرق عليه الشمس فيرونها عليه من المزدلفة ويقولون بعده حتى نغير أن ندفع إلى النحر فخالفهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأفاض قبل طلوع الشمس.
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن أسامة بن زيد كان رديف النبي صلّى اللّه عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وكلاهما قال لم يزل النبي صلّى اللّه عليه وسلم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة.
وروى جابر عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام وهو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح دعا فيه، كبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر الفجر: {وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} لدينه الحق وشرعه الصدق ومناسك حجه، وأكثروا من الدعاء والتكبير والتهليل: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ} قبل هدى اللّه لكم على يد رسوله: {لَمِنَ الضَّالِّينَ} عن طريق السداد تائهين في سبيل العناد، ثم ألمع إلى وجوب الوقوف بعرفات، فقال جل قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ} من عرفات، وقد أشار إلى الوقوف بمزدلفة أيضا، إلا أنه ليس على طريق الوجوب وجيء بثم لتفاوت ما بين الإفاضتين، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كانت قريش ومن دان بدينها يقعون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس لتشددهم في دينهم وكانت سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يأتي عرفات فيقف فيها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا} وروى البخاري ومسلم عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسير في حجة الوداع، قال كان يسير العنق نوع من السير أشد من المشي فإذا وجد فجوة فرجة نصّ أي أسرع في مشيه بأقصى وسع ناقته.
وروى البخاري عن ابن عباس أنه دفع مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبي صلّى اللّه عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع السير السريع الشديد.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} من جميع ذنوبكم ومما خلاف الأولى أيضا: {إِنَّ اللَّهَ غَفُور} لعباده: {رَحِيم} بهم يريد لهم الخير والنجاح في أمورهم كلها، وهذه بشارة من اللّه تعالى للحجاج بقبول حجهم وغفران ذنوبهم.
قال تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ} المارة كلها ورميتم جمرة العقبة وذبحتم نسككم واستقريتم في منى.
وصدر هذه الآية شرط جوابه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بمثل ما تقدم عند التلبية فإنها تنتهي هناك، لأن الحاج لا يزال يلبي من حين يحرم حتى يذبح، ثم أرشدهم لأن يبالغوا في ذكره بقوله جل قوله: {كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ} في الجاهلية: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} من ذكرهم لأن اللّه أحق أن يكثر من ذكره، وكان الجاهليون يقفون في منى بين المسجد والجبل فيذكرون آباءهم ومفاخرهم ومآثرهم وفضائلهم ومحاسنهم وجميع مناقبهم كالكرم والشجاعة وإقراء الضيف ومحافظة الجار وسعة البيوت وكثرة العطاء نثرا وشعرا بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، لرفع الصيت والشهرة وإظهار الرفعة بين الناس، فأمرهم اللّه تعالى في هذه الآية أن يبدلوا ذكر آبائهم بذكره، لأنه هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وهو أحق بالذكر والشكر من آبائهم.
{فَمِنَ النَّاسِ} الحجاج المشركين: {مَنْ يَقُولُ} في ذلك الموقف: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا} زدنا من حطامها: {وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} حظ ولا نصيب لأنهم ينكرون وجودها، روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم تعس دعاء بالهلاك وهو الوقوع على الوجه من العثار عبد الدنيا عبد الدرهم عبد الخميصة ثوب فمن خزّ معلّم إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وقع على رأسه وخاب وخسر وإذا شيك أصابته شوكة فلا انتقش لا أخرجت منه شوكة لأن الانتقاش إخراج الشوكة بالنقاش.
{وَمِنْهُمْ} يعني الحجاج المؤمنين: {مَنْ يَقُولُ} في دعائه: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} بأن تزيدنا من خيرها: {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} بأن تزيدنا من ثوابها لعلمهم أنهم قادمون عليها: {وَقِنا عَذابَ النَّارِ} في الآخرة لأنا موقنون بك وبرجوعنا إليها: {أُولئِكَ} الطالبون خيري الدنيا والآخرة: {لَهُمْ نَصِيب} حظ وافر عظيم، لأن تنوين التنكير يدل على كبر ذلك النصيب: {مِمَّا كَسَبُوا} فيها من الخير، لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فكلما ربحوا في الدنيا من البرّ ضوعف لهم أجره في الآخرة: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} لا يعوقه محاسبة ناس عن أناس يحاسب الخلق كلهم بآن واحد محاسبة شخص واحد.
وتشير هذه الآية إلى قرب الآخرة، لأن كل آت قريب، وكل ماض بعيد فبادروا أيها الناس بالأعمال الصالحة وأكثروا من الدعاء فإنكم محاسبون على أعمالكم، لأنه لا يخفى عليه شيء منها، وأن ما كان وما سيكون مدون في علمه، وأن حسابه كلمح البصر لا يحتاج إلى عقد يد أو جرّة قلم أو روية فكر، ولا يشغله شأن عن شأن، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة.
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال له هل كنت تدعو اللّه بشيء أو تسأله إياه؟ قال نعم.
كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال فدعا اللّه به فشفاه.
ورويا عنه أيضا قال: كان أكثر دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقد قسم اللّه تعالى الناس في هاتين الآيتين إلى قسمين، فعليك أيها العاقل أن تكون من الثاني فقيه الخير أجمع.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ} أي يوم النحر وأيام التشريق الأربعة، وسميت بذلك لأن الأول تنحر فيه الذبائح والتي بعده يشرقون فيها لحومها وينشرونها على مواقع الشمس لتيبس.
روى مسلم عن نبيشه الهذلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر، ومن الذكر في هذه الأيام التكبير وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعا.
وأجمع العلماء على أن المراد التكبير عند رمي الجمرات في منى بأن يكبر مع كل حصاة يرميها في أيام التشريق، وأجمعوا على أن التكبير في عيد الأضحى وأيام التشريق سنة أدبار الصلوات وأوله من صبح يوم عرفة إلى عصر اليوم الخامس، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، ثم خيرهم اللّه تعالى بين التعجيل والتأخير إذا كان الغرض صحيحا بقوله عز قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} لأن الواجب أن يبيت الحاج في منى الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق فقط ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع، وبعد الرمي في اليوم الثاني إذا أراد أن ينفر من منى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وهذا يسمى النفر الأول: {وَمَنْ تَأَخَّرَ} إلى النفر الثاني فبات الليلة الثالثة من أيام التشريق في منى وأكمل الرمي فيه: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ولا حرج، وإنما قال لا إثم عليه هنا مع أنه أكمل حالا من الصورة الأولى المرخص بها دفعا لما يخطر بباله أنه إذا لم يأخذ بالرخصة يأثم، فأزال اللّه تعالى تلك الشبهة بقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} والذي تعجل لا إثم عليه لأنه أخذ بالرخصة، ومن يأخذ بالرخصة لا عتاب عليه لعدم أخذه بالعزيمة، لأن اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وهذا التخيير وففي الإثم: {لِمَنِ اتَّقى} اللّه في حجه، وإنما يتقبل اللّه من المتقين، أما من كان ملوّثا بالمعاصي حين اشتغاله بالحج فلا ينفعه حجه تعجّل أو تأخر، لأن تأديته ظاهرا لا تكفي عند اللّه.
وقيل إن أهل الجاهلية منهم من يقول يأثم المتعجل، ومنهم من يقول يأثم المتأخر، فجاء فضل اللّه بنفي الإثم عن الفريقين، ولذلك قال لمن اتقى، لأن الجاهليين لا يتقون اللّه.
ثم حثّ على التقوى فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في كل أقوالكم وأعمالكم وأحوالكم وأفعالكم قبل الحج وبعده لأنها الدليل الظاهر على قبول الأعمال، قالوا إن الحاج إذا لم تحسن حالته الدينية ومعاملته مع أهله والناس أجمعين بعد حجه فهو دليل على عدم قبوله حفظنا اللّه من ذلك، وحسن أحوالنا الظاهرة والباطنة.
ثم هددهم بقوله جل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} حتما فيجازيكم على أعمالكم كلها حتى نياتكم لأن من علم أنه يبعث ويعاقب ويحاسب ويثاب لابد أن يلازم التقوى التي أكدها اللّه تعالى بعد ذكرها مرتين.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} لأنه يظهر لهم من المودة والصدق خلاف ما يبطن من البغض والكيد والكذب نفاقا: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ} من قوله للرسول وأصحابه أنه مؤمن يحب المؤمنين: {وَهُوَ} والحال أنه: {أَلَدُّ الْخِصامِ} لهم في الباطل شديد المجادلة في النفاق.
روى البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم: {وَإِذا تَوَلَّى} هذا الصنف من المنافقين وأعرض عنك وعن أصحابك يا سيد الرسل ورأى نفسه بحالة لم يشاهده فيها أحد من المؤمنين: {سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها} يقطع الطريق ويسلب المارة ويشهد الزور ويحرض على المؤمنين: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ} بالتسبب إلى إتلافه: {وَالنَّسْلَ} بالقتل والتعطيل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} ولا يرضى به، وفي هذه الجملة إشارة إلى شدة عداوة هذا الصنف من المنافقين إلى المؤمنين وإلى الدين الحق وإيذان في كذبه في دعواه تلك، وقد استنبط بعض العلماء ومنهم الحنابلة من هذه الآية لزوم التحقيق على من يتولى القضاء والشهادة، وأن لا يغر بظاهر حالهما فلعلهما من هذا الصنف.
واعلم أنه لا يقال من هنا إن المحبة هي الإرادة، لأن الإرادة غير المحبة، لأن الإنسان قد يريد الشيء ولا يحبه، بدليل تناول الدواء المر لا عن محبة له ولا رغبة فيه، وعليه فلا دليل في هذه الآية لمن ادعى أن المحبه عين الإرادة، تدبر.
قال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُ} لذلك النوع من الناس على نهج العظة والنصيحة: {اتَّقِ اللَّهَ} واترك ما أنت عليه من هذه الحال الخبيثة والعادة القبيحة: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} حملته المنعة والأنفة والتكبر والحمية الجاهلية والأنانية النفسية والعجب والتيه: {بِالْإِثْمِ} على دوام فعله والزيادة منه لجاجا وعنادا وعتوا، ولم يلتفت إلى النهي الموجه إليه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ} الفرش، قال ابن مسعود: إن من أكبر الذنوب عند اللّه تعالى أن يقال للعبد اتق اللّه فيقول عليك بنفسك، وقيل لعمر اتق اللّه فوضع خده على الأرض تواضعا للّه تعالى.
وسبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق خليف بني زهرة، وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال الكفرة مع حضرة الرسول وأشار عليهم بالرجوع قائلا لهم إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه الناس، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس بعد فقالوا نعم ما رأيت، وكان يظهر إلى الرسول المحبة ويبطن البغض وهو لين الكلام منافق قاسي القلب.
وقد ذكرنا في الآية [198] أن حادثة بدر وقعت في 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة إلا أن اللّه تعالى لم يشر إليها عند وقوعها، وإنما أشار إليها في سورة الأنفال عند قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} في الآية 5 منها وسنأتي على القصة هناك إن شاء اللّه، وهكذا فإنه تعالى تارة ينوه بالشيء قبل وقوعه وطورا عند حدوثه ومرة بعد وقوعه بقليل وأخرى بكثير.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} يبيعها: {ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} لا لشيء آخر بل ليستجلب لها رضاء اللّه ورأفته: {وَاللَّهُ رَؤُف بِالْعِبادِ} أمثال هؤلاء، وهذه الجملة تقرير لما تقدم لأنه كلفهم بالتقوى وعرضهم للثواب ليصب رحمته عليهم، وقد ذكرنا في الآية [143] أن الرأفة رحمة خاصة يلطف بها على خواص عباده عطفاء عليهم.